إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما ً كثيرا ... أما بعد :
عباد اله مع زحمة الحياة وأعمالها ، ومع تتابع الأحداث وآلامها ، تغفل النفوس أحياناً عن ذواتها وسبل تقويمها ، فتحتاج بين الفينة والأخرى إلى كلمات تقرع القلوب وتذكرها ، وتهز الجوارح وتزجرها ، لتعود النفس طائعة أبية إلى خالقها ومولاها .
إن إصلاح النفوس أيها المسلمون جزء من إصلاح المجتمع وتقويمه ، ولئن انشغلنا كثيراً بالمآسي المتوالية التي تتجرعها شعوب أمتنا الإسلامية وانزوينا قليلاً لأعمالنا وأهلينا وتجارتنا فرجوعنا إلى ذواتنا وقلوبنا جزء من علاج مشكلة الأمة أجمع ، لأن الأمة أفراد ولو أن كل فرد أصلح نفسه وأحسن عمله لتحققت لنا كثير من أمانينا ، ولراينا النصر يتنزل على أيدينا .
عباد الله : القلوب تقسو وتغفل ، والجوارح تجفو وتكسل وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يرقق هذا ويروض ذاك، فدعونا أيها الكرام نعيش لحظات إيمانية خاشعة مع آية من آيات الله تعالى أبرز المولى فيها عظمته ، وأظهر قدرته ، جعلها عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين .
إنها النار يا عباد الله ، النار التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقف مرة على المنبر ، وينادي بصوت عال حتى أن خميصه كانت على كتفيه وقعت عند رجليه من شدة تأثره وهو يقول : أنذرتكم النار أنذرتكم النار أنذرتكم النار .
يقول عدي بن حاتم رضي الله عنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار ، فأعرض وأشاح ، ثم قال : اتقوا النار ، ثم أعرض وأشاح ، حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها ، ثم قال : اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد بكلمة طيبة ... أخرجه الشيخان، ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ...
بل سمع أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً : اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم .
أيها المسلمون: لقد كان من هدي السلف الصالح الخوف من النار والحذر منها فها هو صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه يقول : يالتيني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل ، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي .
ويقول عنها أيضاً فاروق هذه الأمة : لو نادى مناد يوم القيامة بالناس جميعاً أن أذهبوا إلى الجنة إلا واحداً لخشيت أن يكون هو عمر ...
وأما ذو النورين فيقول: لو أني بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير .
وها هو أبو هريرة رضي الله عنه رئي في مرضه وهو يبكي فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : ما أبكي على دنياكم هذه ، ولكن على بعد سفري وقلة زادي ، وأني أمسيت في صعود ومهبطة على جنة أو نار فلا أدري إلى أيها يؤخذ بي ،
وكان ابن حيان يخرج في الليل ينادي: عجبت للجنة كيف نام طالبها ، وعجبت للنار كيف نام هاربها .
عباد الله : من النار تقرحت عيون الصالحين من البكاء خوفاً منها ، ولطالما تضرعوا بالدعاء في ظلم الليالي فرقاً منها، كم أقضت النار من مضاجع ، وكم أسالت من مدامع ، وكم أنست من فواجع.
فيا ترى ما هي النار ، ومن هم أهلها ، وما هي أهوالها ؟
أيها الأخوة : النار حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وسلاسلها وأغلالها من حديد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن حرها : ناركم هذه يعني التي في الدنيا ، جزء من سبعين جزء من نار جهنم ..، وفي الحديث الآخر الذي أخرجه الحاكم وغيره: إنها ( أي نار الدنيا ) لجزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وما وصلت إليكم حتى نضحت مرتين بالماء لتضيء لكم ...
وأما قعرها وعمقها فبعيد بعيد .. يقول ابن مسعود رضي الله عنه : سمعنا وجبة ( أي صوتاً شديداً ) فقلنا ما هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها . رواه مسلم.
أما طعامها وشرابها فهو الزقوم والحميم .{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ }،{ طَعَامُ الأَثِيمِ } ، { كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ } ، { كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ سُورَةُ الدُّخَانِ: 43 ، 44 ، 45 ، 46 ] { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [ سُورَةُ الكَّهْفِ : 29 ] ويقول صلى الله عليه وسلم: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه .. أخرجه النسائي وغيره .
وأما وقودها الداخلون إليها لإضرامها كالحطب ونحوه فهم الناس والحجارة كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 24 ]
عباد الله : النار دار الذل والهوان ، دار العذاب والخذلان ، دار الشهيق والزفرات ، ودار الأنين والعبرات ، يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها .. وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ...
يساق أهل النار إلى النار وهم وجلون نصبون يدعون إليها دعا ، ويدفعون إليها دفعا، يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ، يشكون من الجوع فيغاثون بأخبث طعام اعد لأهل المعاصي والآثام ، يملئون بطونهم من تلك الشجرة الخبيثة ، حتى إذا امتلأت، أخذت تغلي في أجوافهم ، فيندفعون إلى الماء ليشربوا فإذا هو الحميم الذي يقطع الأمعاء ، حميم يقطع أمعاءاً طالما ولعت بأكل الحرام ، ويضعضع أعضاءاً طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام ، ويشوي وجوهاً طالما توجهت إلى معصية الملك العلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه ، حتى يمرق من قدميه ، ثم يعاد كما كان ... رواه احمد .
عباد الله :تعد الأسرة لأهل النار ليناموا ، وهيهات هيهات أن يناموا إذ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش .. لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ..
تحيط بهم النار حتى تنضج جلودهم ، فيبدلون غيرها ليذوقوا العذاب ويقاسوا العقاب " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ..".
توصد عليهم الأبواب ، فيعظم هنالك الخطب والمصاب ، أمانيهم فيها الهلاك ،ومالهم من أسرها فكاك ، ينادون من أكنافها ، ويصيحون من أقطارها : يا مالك قد أثقلنا الحديد ، وحق علينا الوعيد ، نضجت منا الجلود ، فهل من خروج إلى خير من هذا الوجود ، فيجيبهم بأقوى خطاب وأغلظ جواب ، إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .
عندها ينادون إلهاً طالما خالفوا أمره ،وانتهكوا حدوده ، ينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم ... ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ... ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقفون .. ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ..
فيجيبهم الجبار جلا وعلا قائلاً سبحانه : اخسئوا فيها ولا تكلمون .
عباد الله : أهل النار لا يرحم باكيهم ، ولا يجاب داعيهم ، قد فاتهم مرادهم ، وأحاطت بهم ذنوبهم ، ولا يزالون في رجاء الفرج والمخرج حتى يناد مناد : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ، " لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ..." ، " انه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى.." .
أيها المسلمون: وإذا أيقن أهل النار بالهلاك ويأسوا من الخلاص والفكاك أشتد حنقهم على من أوقعهم في الضلال والردى ، ومد لهم في الغي مدا ، " يقولون ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين " ، ويقول القرين لقرينه الذي صده عن القرآن وزين له العصيان " { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً }،{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } [ سُورَةُ الفُرْقَانِ : 28 ، 29 ].
عباد الله : هذه بعض أوصاف النار وأحوال أهلها ، فاستعيذوا بالله من النار ، استعيذوا بالله من النار ومن فتنة النار ومن كل قول وفعل يقرب إلى النار .
أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله ذي العزة والإكرام ، والجلال والعظمة التي لا ترام، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم الإنعام ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام ، وأشد أن محمداًَ عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيراً . أما بعد ....
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ، اتقوا يوماً الوقوف فيه طويل ، والحساب فيه ثقيل .
يا غافلاً عن منايا ساقها القدر *** ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلة *** عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت *** للظالمين فما تبقي ولا تذر
أيها الناس : لن يدخل الجنة إلا من يرجوها ، ولن يسلم من النار إلا من يخافها ، من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة.
يقول الحسن البصري رحمه الله : والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم (أي يقع في دركها) ، والله ما انذر العباد بشيء أدهى منها .
عباد الله : تلكم النار وهذا شأنها فيا ترى :
من يطبق زفرة من زفراتها ؟
من يتحمل لحظة من أيامها ؟
من يصبر على لقمة من زقومها ؟
من يقوى على شربة من حميمها ؟
ألا أين تاركي الصلوات ، وأين مرتكبي المحرمات أين أهل عقوق الآباء والأمهات ، أين هؤلاء جميعاً عن هذه الدركات ، وتلك المنازل المبكيات أليس فينا متعظ ، وهل فينا من مدكر قبل أن يحل بنا هادم اللذات ومفرق الجماعات .
عباد الله : أشعروا أفئدتكم وأبدانكم ذكر النار ومقامها ، أطباقها ودركاتها ، وقودها وحجراتها ، والسلاسل والأغلال ، السعير والحميم ، الغساق و الغسلين .
اذكروا بُعد القعر، واذكروا اشتداد الحر ، أبكوا وتباكوا، وأعلموا أنها لن تمس النار عين بكت من خشية الله .
اللهم إنا نعود بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل .
اللهم يا حي يا قيوم يا فرد يا صمد يا ذا الجلال والإكرام أكرمنا في هذا اليوم المبارك بعتق رقابنا من النار .
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال .
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون ...
عباد اله مع زحمة الحياة وأعمالها ، ومع تتابع الأحداث وآلامها ، تغفل النفوس أحياناً عن ذواتها وسبل تقويمها ، فتحتاج بين الفينة والأخرى إلى كلمات تقرع القلوب وتذكرها ، وتهز الجوارح وتزجرها ، لتعود النفس طائعة أبية إلى خالقها ومولاها .
إن إصلاح النفوس أيها المسلمون جزء من إصلاح المجتمع وتقويمه ، ولئن انشغلنا كثيراً بالمآسي المتوالية التي تتجرعها شعوب أمتنا الإسلامية وانزوينا قليلاً لأعمالنا وأهلينا وتجارتنا فرجوعنا إلى ذواتنا وقلوبنا جزء من علاج مشكلة الأمة أجمع ، لأن الأمة أفراد ولو أن كل فرد أصلح نفسه وأحسن عمله لتحققت لنا كثير من أمانينا ، ولراينا النصر يتنزل على أيدينا .
عباد الله : القلوب تقسو وتغفل ، والجوارح تجفو وتكسل وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يرقق هذا ويروض ذاك، فدعونا أيها الكرام نعيش لحظات إيمانية خاشعة مع آية من آيات الله تعالى أبرز المولى فيها عظمته ، وأظهر قدرته ، جعلها عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين .
إنها النار يا عباد الله ، النار التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقف مرة على المنبر ، وينادي بصوت عال حتى أن خميصه كانت على كتفيه وقعت عند رجليه من شدة تأثره وهو يقول : أنذرتكم النار أنذرتكم النار أنذرتكم النار .
يقول عدي بن حاتم رضي الله عنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم النار ، فأعرض وأشاح ، ثم قال : اتقوا النار ، ثم أعرض وأشاح ، حتى ظننا أنه كأنما ينظر إليها ، ثم قال : اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد بكلمة طيبة ... أخرجه الشيخان، ويروي أنس بن مالك رضي الله عنه أن أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ...
بل سمع أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه قائلاً : اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم .
أيها المسلمون: لقد كان من هدي السلف الصالح الخوف من النار والحذر منها فها هو صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه يقول : يالتيني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل ، أخاف أن يلقيني في النار ولا يبالي .
ويقول عنها أيضاً فاروق هذه الأمة : لو نادى مناد يوم القيامة بالناس جميعاً أن أذهبوا إلى الجنة إلا واحداً لخشيت أن يكون هو عمر ...
وأما ذو النورين فيقول: لو أني بين الجنة والنار، ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي، لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير .
وها هو أبو هريرة رضي الله عنه رئي في مرضه وهو يبكي فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : ما أبكي على دنياكم هذه ، ولكن على بعد سفري وقلة زادي ، وأني أمسيت في صعود ومهبطة على جنة أو نار فلا أدري إلى أيها يؤخذ بي ،
وكان ابن حيان يخرج في الليل ينادي: عجبت للجنة كيف نام طالبها ، وعجبت للنار كيف نام هاربها .
عباد الله : من النار تقرحت عيون الصالحين من البكاء خوفاً منها ، ولطالما تضرعوا بالدعاء في ظلم الليالي فرقاً منها، كم أقضت النار من مضاجع ، وكم أسالت من مدامع ، وكم أنست من فواجع.
فيا ترى ما هي النار ، ومن هم أهلها ، وما هي أهوالها ؟
أيها الأخوة : النار حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وسلاسلها وأغلالها من حديد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن حرها : ناركم هذه يعني التي في الدنيا ، جزء من سبعين جزء من نار جهنم ..، وفي الحديث الآخر الذي أخرجه الحاكم وغيره: إنها ( أي نار الدنيا ) لجزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وما وصلت إليكم حتى نضحت مرتين بالماء لتضيء لكم ...
وأما قعرها وعمقها فبعيد بعيد .. يقول ابن مسعود رضي الله عنه : سمعنا وجبة ( أي صوتاً شديداً ) فقلنا ما هذا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها . رواه مسلم.
أما طعامها وشرابها فهو الزقوم والحميم .{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ }،{ طَعَامُ الأَثِيمِ } ، { كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ } ، { كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ سُورَةُ الدُّخَانِ: 43 ، 44 ، 45 ، 46 ] { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [ سُورَةُ الكَّهْفِ : 29 ] ويقول صلى الله عليه وسلم: لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن تكون طعامه .. أخرجه النسائي وغيره .
وأما وقودها الداخلون إليها لإضرامها كالحطب ونحوه فهم الناس والحجارة كما قال تعالى: { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 24 ]
عباد الله : النار دار الذل والهوان ، دار العذاب والخذلان ، دار الشهيق والزفرات ، ودار الأنين والعبرات ، يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها .. وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ...
يساق أهل النار إلى النار وهم وجلون نصبون يدعون إليها دعا ، ويدفعون إليها دفعا، يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ، يشكون من الجوع فيغاثون بأخبث طعام اعد لأهل المعاصي والآثام ، يملئون بطونهم من تلك الشجرة الخبيثة ، حتى إذا امتلأت، أخذت تغلي في أجوافهم ، فيندفعون إلى الماء ليشربوا فإذا هو الحميم الذي يقطع الأمعاء ، حميم يقطع أمعاءاً طالما ولعت بأكل الحرام ، ويضعضع أعضاءاً طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام ، ويشوي وجوهاً طالما توجهت إلى معصية الملك العلام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه ، فيسلت ما في جوفه ، حتى يمرق من قدميه ، ثم يعاد كما كان ... رواه احمد .
عباد الله :تعد الأسرة لأهل النار ليناموا ، وهيهات هيهات أن يناموا إذ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش .. لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ..
تحيط بهم النار حتى تنضج جلودهم ، فيبدلون غيرها ليذوقوا العذاب ويقاسوا العقاب " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب ..".
توصد عليهم الأبواب ، فيعظم هنالك الخطب والمصاب ، أمانيهم فيها الهلاك ،ومالهم من أسرها فكاك ، ينادون من أكنافها ، ويصيحون من أقطارها : يا مالك قد أثقلنا الحديد ، وحق علينا الوعيد ، نضجت منا الجلود ، فهل من خروج إلى خير من هذا الوجود ، فيجيبهم بأقوى خطاب وأغلظ جواب ، إنكم ماكثون لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .
عندها ينادون إلهاً طالما خالفوا أمره ،وانتهكوا حدوده ، ينادون ربهم وقد اشتد بكاؤهم وعلا صياحهم وارتفع صراخهم ... ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل ... ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقفون .. ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون ..
فيجيبهم الجبار جلا وعلا قائلاً سبحانه : اخسئوا فيها ولا تكلمون .
عباد الله : أهل النار لا يرحم باكيهم ، ولا يجاب داعيهم ، قد فاتهم مرادهم ، وأحاطت بهم ذنوبهم ، ولا يزالون في رجاء الفرج والمخرج حتى يناد مناد : يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ، " لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ..." ، " انه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى.." .
أيها المسلمون: وإذا أيقن أهل النار بالهلاك ويأسوا من الخلاص والفكاك أشتد حنقهم على من أوقعهم في الضلال والردى ، ومد لهم في الغي مدا ، " يقولون ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين " ، ويقول القرين لقرينه الذي صده عن القرآن وزين له العصيان " { يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً }،{ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } [ سُورَةُ الفُرْقَانِ : 28 ، 29 ].
عباد الله : هذه بعض أوصاف النار وأحوال أهلها ، فاستعيذوا بالله من النار ، استعيذوا بالله من النار ومن فتنة النار ومن كل قول وفعل يقرب إلى النار .
أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله ذي العزة والإكرام ، والجلال والعظمة التي لا ترام، أحمده سبحانه وأشكره على عظيم الإنعام ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام ، وأشد أن محمداًَ عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيراً . أما بعد ....
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، اتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ، اتقوا يوماً الوقوف فيه طويل ، والحساب فيه ثقيل .
يا غافلاً عن منايا ساقها القدر *** ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إن العين غافلة *** عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت *** للظالمين فما تبقي ولا تذر
أيها الناس : لن يدخل الجنة إلا من يرجوها ، ولن يسلم من النار إلا من يخافها ، من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة.
يقول الحسن البصري رحمه الله : والله ما صدق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، وإن المنافق لو كانت النار خلف ظهره ما صدق بها حتى يتجهم (أي يقع في دركها) ، والله ما انذر العباد بشيء أدهى منها .
عباد الله : تلكم النار وهذا شأنها فيا ترى :
من يطبق زفرة من زفراتها ؟
من يتحمل لحظة من أيامها ؟
من يصبر على لقمة من زقومها ؟
من يقوى على شربة من حميمها ؟
ألا أين تاركي الصلوات ، وأين مرتكبي المحرمات أين أهل عقوق الآباء والأمهات ، أين هؤلاء جميعاً عن هذه الدركات ، وتلك المنازل المبكيات أليس فينا متعظ ، وهل فينا من مدكر قبل أن يحل بنا هادم اللذات ومفرق الجماعات .
عباد الله : أشعروا أفئدتكم وأبدانكم ذكر النار ومقامها ، أطباقها ودركاتها ، وقودها وحجراتها ، والسلاسل والأغلال ، السعير والحميم ، الغساق و الغسلين .
اذكروا بُعد القعر، واذكروا اشتداد الحر ، أبكوا وتباكوا، وأعلموا أنها لن تمس النار عين بكت من خشية الله .
اللهم إنا نعود بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل .
اللهم يا حي يا قيوم يا فرد يا صمد يا ذا الجلال والإكرام أكرمنا في هذا اليوم المبارك بعتق رقابنا من النار .
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال .
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون ...