لو أتيحت الفرصة للسيد ليفاي شتراوس أن يصحو من رقاده الأبدي ويتجول بضع ساعات في شوارع القاهرة ليرى بنفسه ما طرأ من تغييرات وتبديلات وتطورات على ابتكاره الفريد, لاعترته مشاعر متناقضة من فرح ودهشة وربما عدم تصديق.
فشتراوس حين ترك بلده ألمانيا وهاجر الى الولايات المتحدة الاميركية واستقر في سان فرانسيسكو العام 1853 حيث افتتح محلاً تجارياً صغيراً لم يكن يتخيل أن اسمه سيخلد في التاريخ, وأن ابتكاره سيلقى هذا الترحيب في أرجاء المعمورة.
كان معظم زبائن شتراوس من عمال المناجم ورعاة البقر الذين كانوا في حاجة إلى ملابس تتحمل عملهم الشاق, وأخذ شتراوس يبحث عن قماش قوي متين, فتوصل الى نوعية جديدة صنعت في فرنسا اسمها Serge de nimes اختصرت في ما بعد إلى Denim وهو الاسم الذي يطلق على هذا الاختراع الرائع المعروف بـ»بنطلون الجينز».
وخضع القماش الجديد لعمليات تطوير وتقوية الى أن تم تسجيل «بنطلون الجينز» رسمياً في الولايات المتحدة الاميركية يوم 20 ايار (مايو) العام 1873.
ولكن شتان بين 1873 في سان فرانسيسكو و 2005 في القاهرة! فبدلاً من أن يكون البنطلون الجديد رمزاً للخشونة وتحمل العمل الشاق في المناجم والمحاجر وعلى ظهور الجياد, تحول بنطلوناً low waist تظهر به الفتيات رشاقتهن, أو مطرزاً بالخرز لاناقة بعد الظهر, أو ينتهي اسفل الركبة «بانتاكور» لمسايرة الموضة, أو مزوداً بتنورة قصيرة لاخفاء عيوب الجسم. بل إنه خضع لعملية «ريلوكينغ» شاملة وكاملة فأصبح عباءة ترتديها المحجبات والمنقبات من طالبات الجامعات.
بضع دقائق للتأمل أمام المدخل الرئيس لجامعة عين شمس أو القاهرة كفيلة بمشاهدة ما حصل لزي رعاة البقر. مجموعة من الفتيات وقفن عند بوابة كلية التجارة في جامعة القاهرة، غالبيتهن محجبات, واثنتان ترتديان «الاسدال» (اشبه بالعباءة لكن دون أكمام), يجمع بينهن جميعاً «البنطلون» أو «التنورة الجينز». تقول مروة (20 عاماً) «أكاد لا أرتدي سوى الجينز. لدي بنطلونات وتنانير وفساتين جينز اشتريتها كلها من محلات في وسط القاهرة, وهو قماشي المفضل لأنه على الموضة وأنيق ومناسب لكل الأوقات».
وتضم صديقتها نهلة (19 عاماً) صوتها إليها وتقول: «أفضل تطور حصل في صناعة الملابس في مصر في العامين الماضيين كان تصنيع ملابس الجينز للمحجبات, فالغالبية العظمى من فتيات الجامعات المسلمات الآن محجبات, وكانت الاختيارات محدودة وغير مناسبة للشابات حتى وقت قريب, ولكن الآن تنبه اصحاب المحلات والمصانع الى ذلك ولم يعد الجينز مقتصراً على الملابس غير المحتشمة».
زميلتها علياء (20 عاماً) ترتدي تنورة جينز زرقاء لكن ذيلها يميل الى السواد, فهو مشبع بالاتربة والطين, فالتنورة طويلة الى درجة أنها تقوم بمهمة تنظيف أي مكان تمشي فيه علياء سواء في الشارع او في الجامعة.
تقول علياء مدافعة عن ذيل تنورتها: «التنانير الطويلة على الموضة, صحيح أنني أواجه بعض الصعوبات اثناء صعود الدرج او هبوطه, لكنني ألجأ الى رفع التنورة بيدي بعض الشيء».
أما الفتاتان المرتديتان للإسدال الاسود, فيظهر أسفلهما آثار للجينز, والمفاجأة انهما ترتديان بنطلونين جينز, بل إن احدهما «سترتش».
لكن للـ»سترتش» اصحابه الاصليون. في نادي هليوبوليس الرياضي في حي مصر الجديدة الراقي كل انواع الجينز التي قد تصعب رؤيتها في الجامعات الرسمية. هناك البنطلون الـLow waist والتنورة الجينز الميني جيب, والسترتش الملتصق تماماً بالجسم, كما تظهر في الصيف نماذج للفساتين العارية, والبلوزات الجينز المقتصرة على قطعة مستطلية من القماش من دون عناء الأكمام والازرار وغيرها من المظاهر التقليدية للملابس.
ولكن على النقيض, هناك من الشباب من يرفض تماماً ارتداء الجينز, لا سيما في الاونة الاخيرة وتوتر المشاعر بين الغرب والعرب. أحمد (21 عاماً) طالب في كلية الهندسة، جامعة القاهرة، توقف تماماً عن ارتداء الجينز منذ نحو عامين, يقول: «كانت لدي شكوك حول ارتداء الجينز بالنسبة الى المسلمين, وفي احد الدروس الدينية التي اداوم على حضورها في المسجد المجاور لبيتي, سألت أحد العلماء الاجلاء عن ذلك, ومع أنه لم يحرم ارتداءه, إلا أنني شعرت من حديثه أنه يفضل للمسلمين عدم التشبه بالغرب في الحديث والتصرفات ومنها الملابس».
وعلى رغم أن الداعية الشاب عمرو خالد اكتسب جانباً كبيراً من شعبيته أول ظهوره قبل نحو خمس سنوات من اقترابه الشديد من الشباب مظهراً وحديثاً, حتى ان الكثيرين ابدوا تعجبهم آنذاك من ظهور داعية يرتدي الجينز, إلا أن نظرة سريعة الى الشباب, لا سيما الذكور من أعضاء «الاسر الجامعية» (النوادي المؤسسة في الجامعات المصرية) كفيلة بإظهار احجام الغالبية عن ارتداء الجينز في كل صوره.
وإذا كان هناك من الشيوخ المتشددين ممن يُحرم ارتداء الجينز واحتساء الكوكاكولا وأكل الهمبرغر باعتبارها من مظاهر التشبه بالغرب, ويجدون آذاناً صاغية لدى قطاع ليس صغيراً من شباب الجامعات, فإن مطربي أو مطربات الفيديو كليب والاغاني الشبابية يجدون أنفسهم في موقع «النموذج المحتذى به» في احيان كثيرة. فارتداء المطربة هيفاء وهبي للبنطلون الجينز مع الجاكيت والقميص الكلاسيكيين انتشر بسرعة البرق بين فتيات الجامعات المحجبات وغير المحجبات, وكذلك الحال بالنسبة الى الشباب الذين اعجبوا بالمزج بين «الكاجوال» والكلاسيكي في ملابس مطربين مثل علاء زلزلي, وايهاب توفيق, وراغب علامة وسواهم.
والطريف أن الجينز تسلل الى حفلات الافراح والاعراس في مصر كذلك, لا سيما بين الفتيات اللاتي يختار بعضهن فستان سواريه جينز مطرزًا بـ «الترتر» والـ «لولي» ولا يخلو من إغراء. بل إن بعض العرسان والعرائس من مهووسي الموضة يختارون البذلات السود وفساتين الفرح البيض المطعمة بالجينز الازرق, في إعلان صريح أن «ليفاي شتراوس» لم يمت حتى وإن اندثر رعاة البقر, وقلّ عمال المناجم, وتشدد شيوخ الشباب.